سورة البقرة - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


قوله تعالى: {أو كصَيِّبٍ من السمَاء}. أو، حرف مردود على قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} [البقرة: 17] واختلف العلماء فيه على ستة أقوال.
أحدها: أنه داخل هاهنا للتخيير، تقول العرب: جالس الفقهاء أو النحويين، ومعناه: انت مخير في مجالسة أي الفريقين شئت، فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول أو الثاني.
والثاني: أنه داخل للابهام فيما قد علم الله تحصيله، فأبهم عليهم مالا يطلبون تفصيله، فكأنه قال: مثلهم كأحد هذين. ومثله قوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} [البقرة: 74] والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله. قال لبيد:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما *** وهل أنا إِلا من ربيعة أو مضر
أي: هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين، وقد فنيا، فسبيلي أن أفنى كما فنيا.
والثالث: أنه بمعنى: بل. وأنشد الفراء:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أو أنت في العين أملح
والرابع: أنه للتفصيل، ومعناه: بعضهم يشبه بالذي استوقد ناراً، وبعضهم بأصحاب الصيّب. ومثله قوله تعالى: {كونوا هوداً أو نصارى} [البقرة: 135] معناه: قال بعضهم، وهم اليهود: كونوا هودا، وقال النصارى: كونوا نصارى. وكذا قوله: {فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون} [الأعراف: 4] معناه: جاء بعضهم بأسنا بياتاً، وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة.
والخامس: أنه بمعنى الواو. ومثله قوله تعالى: {أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم} [النور: 61] قال جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدراً *** كما أتى ربَّه موسى على قدر
والسادس: أنه للشك في حق المخاطبين، إذ الشك مرتفع عن الحق عز وجل، ومثله قوله تعالى: {وهو أهون عليه} [الروم: 27] يريد: فالإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون.
فأما التفسير لمعنى الكلام: أو كأصحاب صيب، فأضمر الأصحاب، لأن في قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم}، دليلاً عليه. والصيب: المطر. قال ابن قتيبة: هو فيعل من صاب يصوب: إذا نزل من السماء، وقال الزجاج: كل نازل من علو إلى استفال، فقد صاب يصوب، قال الشاعر:
كأنهمُ صابت عليهم سحابة *** صواعقها لطيرهن دبيب
وفي الرعد ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه صوت ملك يزجر السحاب، وقد روي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن عباس ومجاهد. وفي رواية عن مجاهد: أنه صوت ملك يسبح. وقال عكرمة: هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الابل.
والثاني: أنه ريح تختنق بين السماء والأرض. وقد روي عن أبي الجلد أنه قال: الرعد: الريح. واسم أبي الجلد: جيلان بن أبي فروة البصري، وقد روى عنه قتادة.
والثالث: أنه اصطكاك أجرام السحاب، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله.
وفي البرق ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب، روي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول علي بن أبي طالب.
وفي رواية عن علي قال: هو ضربة بمخراق من حديد. وعن ابن عباس: أنه ضربة بسوط من نور. قال ابن الانباري: المخاريق: ثياب تلف، ويضرب بها الصبيان بعضهم بعضاً، فشبه السوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق.
قال عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم *** مخاريق بأيدي لاعبينا
وقال مجاهد: البرق: مصع ملك، والمصع: الضرب والتحريك.
والثاني: أن البرق: الماء، قاله أبو الجلد. وحكى ابن فارس أن البرق: تلألؤ الماء.
والثالث: أنه نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب لسيره، وضرب بعضه لبعض، حكاه شيخنا.
والصواعق: جمع صاعقة، وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه. وروي عن شهر بن حوشب: أن الملك الذي يسوق السحاب، إذا اشتد غضبه، طار من فيه النار، فهي الصواعق. وقال غيره: هي نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب. قال ابن قتيبة: وإنما سميت صاعقة، لأنها إذا أصابت قتلت، يقال: صعقتهم أي: قتلتهم.
قوله تعالى: {والله مُحيط بالكافرين}.
فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه لا يفوته أحد منهم، فهو جامعهم يوم القيامة. ومثله قوله تعالى: {أحاط بكل شيء علماً} [الطلاق: 12] قاله مجاهد.
والثاني أن الإحاطة: الإهلاك، مثل قوله تعالى: {وأحيط بثمره} [الكهف: 42]
والثالث: أنه لا يخفى عليه ما يفعلون.


قوله تعالى: {يَكَادُ البَرْق يخطَفْ أبْصارهُمْ}. يكاد بمعنى: يقارب، وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل، وإذا نفيت ثبت الفعل. وسئل بعض المتأخرين فقيل له:
أنحوي هذا العصر ما هي كلمة *** جرت بلسانيْ جرهم وثمود
إذا نفيت والله يشهد أثبتت *** وإن أثبتت قامت مقام جحود
ويشهد للاثبات عند النفي قوله تعالى: {لا يكادون يفقهون حديثاً} [النساء: 78] وقوله: {إذا أَخرج يده لم يكد يراها} [النور: 40] ومثله {ولا يكاد يبين} [الزخرف: 52] ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى {يكاد البرق} [البقرة: 20] و{يكاد سنا برقه} [النور: 43] و{يكاد زيتها يضئ} [النور: 35]. وقال ابن قتيبة: كاد: بمعنى هم ولم يفعل. وقد جاءت بمعنى الإثبات قال ذو الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت *** لعينيه ميّ سافراً كاد يَبرَق
أي: لو تعرضت له لبرق، أي: دهش وتحير.
قلت: وقد قال ذو الرمة في المنفية ما يدل على أنها تستعمل للاثبات، وهو قوله:
اذا غيَّر النأي المحبين لم يكد *** رسيس الهوى من حبِّ ميَّة يبرح
أراد: لم يبرح.
قوله تعالى: {يخطَفُ أبْصارَهُم}
قرأ الجمهور بفتح الياء، وسكون الخاء وفتح الطاء. وقرأَ أبان بن تغلب، وأبان بن يزيد كلاهما عن عاصم، بفتح الياء وسكون الخاء، وكسر الطاء مخففاً. ورواه الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، بفتح الياء وكسر الخاء، وتشديد الطاء، وهي قراءة الحسن كذلك، إلا أنه كسر الياء. وعنه: فتح الياء والخاء مع كسر الطاء المشددة.
ومعنى {يخطف} يستلب، وأصل الاختطاف: الاستلاب، ويقال لما يخرج به الدلو: خطاف، لأنه يختطف ما علق به. قال النابغة:
خطاطيف حجْنٍ في حبالٍ متينة *** تمُدُّ بها أيدٍ إِليك نوازع
والحجن المتعقفة وجمل خيطف: سريع المر، وتلك السرعة الخطفى.
قوله تعالى: {كلما أَضَاءَ لهم}
قال الزجاج: يقال ضاء الشيء يضوء، وأضاء يضيء، وهذه اللغة الثانية هي المختارة.
فصل:
واختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه التخويف الذي في القرآن، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب إذا علم النبي والمؤمنون بنفاقهم، قاله مجاهد والسدي.
والثالث: أنه ما يخافونه من الدعاء إلى الجهاد، وقتال من يبطنون مودته، ذكره شيخنا.
واختلفوا: ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما يتبين لهم من مواعظ القرآن وحكمه.
والثاني: أنه ما يضيء لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه. والثالث: أنه مثل لما ينالونه باظهار الإسلام من حقن دمائهم، فانه بالإِضافة إِلى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق.
واختلفوا في معنى قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق} على قولين. أحدهما: أنهم كانوا يفرون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخالفة الموت، قاله الحسن والسدي.
والثاني: أنه مثل لإِعراضهم عن القرآن كراهية له، قاله مقاتل.
واختلفوا في معنى {كلما أضاء لهم مشوا فيه} على أربعة أقوال.
أحدها: أن معناه: كلما أتاهم القرآن بما يحبون تابعوه، قاله ابن عباس والسدي.
والثاني: أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته، قاله قتادة.
والثالث: أنه تكلمهم بالاسلام، ومشيهم فيه، اهتداؤهم به، فاذا تركوا ذلك وقفوا في ضلالة، قاله مقاتل.
والرابع: أن إِضاءته لهم: تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان، ومشيهم فيه: إقامتهم على المسالمة باظهار ما يظهرونه. ذكره شيخنا.
فأما قوله تعالى: {وإِذا أظْلَم علَيهِم} فمن قال: إضاءته: إتيانه إياهم بما يحبون، قال: إظلامه: إتيانه إياهم بما يكرهون. وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس.
ومعنى {قاموا}: وقفوا.
قوله تعالى: {ولو شاء الله لَذَهبَ بسَمْعهم وأبْصارهم} قال مقاتل: معناه: لو شاء لأذهب أسماعهم وأبصارهم عقوبة لهم. قال مجاهد: من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في نعت المنافقين.


اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال. أحدها: أنه عام في جميع الناس، وهو قول ابن عباس.
والثاني: أنه خطاب لليهود دون غيرهم، قاله الحسن ومجاهد. والثالث: أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم، قاله السدي. والرابع: أنه خطاب للمنافقين واليهود، قاله مقاتل: و{الناس} اسم للحيوان الآدمي. وسموا بذلك لتحركهم في مراداتهم. والنوس: الحركة. وقيل: سموا أناسا لما يعتريهم من النسيان.
وفي المراد بالعبادة هاهنا قولان. أحدهما: التوحيد، والثاني: الطاعة، رويا عن ابن عباس. والخلق: الإيجاد. وإنما ذكر من قبلهم، لأنه أبلغ في التذكير، وأقطع للجحد، وأحوط في الحجة. وقيل إنما ذكر من قبلهم لينبههم على الاعتبار بأحوالهم من إثابة مطيع، ومعاقبة عاص.
وفيلعل قولان:
أحدهما: أنها بمعنى كي، وأنشدوا في ذلك:
وقلتم لنا كفُّوا الحروب لعلنا *** نكفُّ ووثّقتم لنا كل مَوثِق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كلمع سراب في الملا متألق
يريد: لكي نكف، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان.
والثاني: أنها بمعنى الترجي، ومعناها: اعبدوا الله راجين للتقوى، ولأن تقوا أنفسكم بالعبادة-عذاب ربكم. وهذا قول سيبويه. قال ابن عباس: لعلكم تتقون الشرك، وقال الضحاك: لعلكم تتقون النار. وقال مجاهد: لعلكم تطيعون.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10